جنوب أفريقيا تفضح إسرائيل- الإبادة الجماعية بداية النهاية الأخلاقية.

المؤلف: د. عمار علي حسن11.21.2025
جنوب أفريقيا تفضح إسرائيل- الإبادة الجماعية بداية النهاية الأخلاقية.

في عام 1989، حينما كنا نخوض غمار مناقشة بحثٍ معمّق لأحد زملائنا، حينما كنا في آخر سنوات الدراسة بقسم العلوم السياسية في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، تناول البحث حينها التعاون النووي بين جنوب أفريقيا وإسرائيل. لم يخطر ببال أحد منا، في تلك الحقبة، أن هذه الدولة الأفريقية، بتأثيرها وقيمتها، ستتبوأ يومًا مكانةً مرموقة في طليعة الدول المواجهة لإسرائيل على مستوى العالم.

كان إنهاء نظام الفصل العنصري البغيض، وخروج المناضل الأسطوري نيلسون مانديلا من غياهب السجون إلى سدة الحكم، أشبه بحلم بعيد المنال. وحتى إن توقعنا حدوثه، لم نكن نحلم بأن يتحقق إلا بعد عقود مديدة من الزمن.

تجربة مريرة

لقد خرجت جنوب أفريقيا من أتون محنة التمييز العنصري ضد السود، وهي مؤمنة إيمانًا راسخًا بمقولة مانديلا الخالدة: "نتسامح، لكن لا ننسى"، ثم أصبحت أمينة على هذا المبدأ النبيل.

ولأنها لم تنسَ تلك الحقبة المظلمة، جاءت مقاربتها للحرب الشرسة التي تشنها إسرائيل على غزة، نابعة من صميم تجربة مريرة عاشتها، تجربة بدأت باستعمار استيطاني بغيض، ثم كفاح مسلح سالت فيه دماء غزيرة، فنضال سلمي، أوجد حالة من التعاطف الدولي العميق مع المضطهدين. تلك الحالة تُرجمت إلى نبذ ومقاطعة وفرض عزلة خانقة على نظام الحكم العنصري، مما اضطره في نهاية المطاف إلى التخلي عن مسلماته وقوانينه وإجراءاته وتصوراته وأسلوب إدارته للدولة والمجتمع، ليتهاوى هذا النظام الكريه، وتقوم على أنقاضه دولة ديمقراطية، تسود فيها المساواة بين المواطنين البيض والسود في الحقوق والواجبات.

هذا التاريخ الحافل بالأحداث يشكل الآن إطارًا معرفيًا تستند إليه جوهانسبرغ في مقاربة القضايا الدولية. وها هي قد طبقت هذا الإطار على الوضع في غزة، فلم تجد أمامها من سبيل سوى أن ترفع دعوى قضائية أمام محكمة العدل الدولية، متهمة إسرائيل بارتكاب "إبادة جماعية" في هذا القطاع الضيق، لم تقتصر على البشر، بل طالت الحجر أيضًا.

خطوة شجاعة

لا شك أن قيام جنوب أفريقيا بهذه الخطوة الجريئة يكتسب أهمية استثنائية وقوة دافعة من تلك التجربة القاسية، وذلك الإطار المعرفي المتين، بل من الصورة المشرقة التي تطل بها هذه الدولة الأفريقية على العالم أجمع. وينسحب جزء كبير من ذلك على قضية الشعب الفلسطيني العادلة؛ لأنه يواجه أيضًا استعمارًا استيطانيًا إحلاليًا بشعًا، ويعيش خلف جدران عازلة، حولت قطاع غزة والضفة الغربية إلى سجنَين كبيرين، فيما يمارس الاحتلال ضد من تبقى من هذا الشعب داخل إسرائيل منذ عام 1948، ممن يحملون جنسيتها، تمييزًا عنصريًا واضحًا وفاضحًا.

وضمن هذه الصورة المشرقة أيضًا، بل في صميمها، يكمن تمثيل جنوب أفريقيا للعالم بأعراقه وثقافاته المتنوعة. فقد وجدنا من بين أعضاء الفريق القانوني الذي يترافع أمام قضاة محكمة العدل الدولية، محامين من أصول أوروبية وأفريقية وآسيوية، وفي داخل الدولة نفسها تمثيل للأديان الثلاثة الأكثر ارتباطًا بالقضية الفلسطينية، وهي: المسيحية، والإسلام، واليهودية.

وتضيف جنوب أفريقيا إلى صورتها العالمية المعهودة بعدًا إنسانيًا جديدًا اليوم، بتدخلها النبيل من أجل إنقاذ الشعب الفلسطيني المظلوم. إذ لم يعد أمام كل إنسان حر منصف في هذا العالم، إلا أن يعبر من أعماق نفسه، و بكل جوارحه، وبأعلى صوته: شكرًا جنوب أفريقيا على هذا الموقف الشجاع.

تطرف وغطرسة

إن مقارنة موقف بلاد مانديلا بمواقف غيرها من الدول، يدل دلالة واضحة على إدراك عام لأمرين أساسيين؛ الأول: أنه كما هو حال الأفراد، هناك دول مكرمة وأخرى مهانة، ودول شجاعة وأخرى جبانة، والثاني: أن كل مظاهر الحب والاحترام العميقين التي نالها مانديلا، نابعة من قناعة راسخة بأن شخصه ومسيرته وأهله يستحقون هذا التقدير عن جدارة.

كل هذه العوامل مجتمعة جعلت من تصدي جنوب أفريقيا للعدوان الإسرائيلي الغاشم عبر محكمة العدل الدولية، موقفًا له حيثية قوية وحُجية دامغة، متكئة على مكانة هذه الدولة وصورتها الناصعة، والدور المحوري الذي تلعبه في فض النزاعات وتسويتها في القارة السمراء على مدار ربع قرن تقريبًا، وكذلك الشعبية الجارفة التي اكتسبتها في الأيام الأخيرة.

ربما لهذا السبب أدرك بعض الإسرائيليين أن مثولهم أمام محكمة العدل الدولية، لأول مرة، وبيد جنوب أفريقيا بالذات، يمثل ضغطًا دوليًا هائلاً عليهم، يجب التعامل معه بجدية. وهو ما تجسد بالفعل حين حضرت إسرائيل جلسات المحاكمة، ودافعت عن نفسها، بينما كانت هناك أصوات داخلها غارقة في التطرف والغطرسة، تنادي بعدم المثول أمام المحكمة أصلًا.

وإذا كان هناك بعض الإسرائيليين ممّن يسخر من هذا الأمر برمته، زاعمًا أن المحكمة ستذهب في نهاية المطاف إلى مجلس الأمن، حيث ستستخدم الولايات المتحدة الأميركية حق النقض (الفيتو)، فإن هؤلاء المستهترين لا يدركون حقيقة دامغة، وهي أن ما جرى في محكمة العدل الدولية، هو بمثابة إعلان سقوط إسرائيل أخلاقيًا، وهذا يمثل مقدمة لثمن سياسي باهظ جدًا ستدفعه حتمًا، ومعها بالطبع واشنطن إن أصرّت على الدفاع الأعمى عن آلة القتل الإسرائيلية بلا تبصّر أو تروٍّ.

سقوط الطلاءات المزيفة

قد لا تلتزم إسرائيل بقرار وقف الحرب إذا صدر من المحكمة، ولكن إدانتها وفضحها وتعريتها أمام العالم أجمع على هذا النحو، سيكرس تجريدها من الصورة الوردية التي سوّقتها لعقود طويلة عن نفسها، ويزيد من تعاطف العالم مع القضية الفلسطينية العادلة.

فالآن لم يعد من الصعب إعادة رسم الصورة الذهنية للفلسطينيين، تلك الصورة التي طالها ونالها تشويه مقصود بفعل إسرائيل وتدبيرها. فمن قبلُ كانت هناك مشكلات جمة تواجه هذا التشويه، أما الآن فإن الصد والرد سيتكئان على بعد قانوني ومنطقي راسخ، طرحته جنوب أفريقيا أمام محكمة دولية، وسرى هذا الطرح في أوصال العالم كله، عبر وسائل الإعلام التقليدية والحديثة في آن واحد.

وحتى إذا أفلتت إسرائيل من جريمة "الإبادة الجماعية"، التي تتطلب توافر النية أو القصد الإجرامي، فإن ما ارتكبته ضد الغزّيّين هو، بلا أدنى مواربة، جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، يجب أن تتوقف فورًا، ولا تنتظر إصدار المحكمة حكمًا نهائيًا. وإن لم تمتثل إسرائيل لذلك، فإن السخط الدولي عليها سيزداد، وستتساقط كل الطلاءات الملونة الجذابة التي توارت خلفها حقيقة ناصعة كالشمس، هي أن الفلسطينيين يقعون تحت احتلال بغيض، وأن هذا هو أس الداء والبلاء، ودون علاجه لن تتحقق أي تسوية أو سلام، وسيستمر الدم سائلًا، والنار مشتعلة، والآلام صارخة.

التهرب من المسؤولية

ولعلّ إسرائيل نفسها تدرك هذه الحقيقة جيدًا، وتحاول جاهدة إخفاءها، كما فعل محاميها أمام المحكمة، حيث لم يأتِ على ذكر كلمة "الاحتلال"، لا تصريحًا ولا تلميحًا، بل حاول التهرب من مسؤوليته عن الشعب الواقع تحت الاحتلال، حين رد على اتهام إسرائيل بتعطيش وتجويع الفلسطينيين عمدًا بالقول: مصر هي المسؤولة عن معبر "رفح"، متجاهلًا ستة معابر أخرى بين إسرائيل وغزة، تم إغلاقها بإحكام، بهدف تشديد الحصار الخانق على القطاع.

ومن المتوقع أن تواجه إسرائيل ضغوطًا متزايدة في الأيام القادمة، لإجبارها على القيام بأعباء الاحتلال، والأهم من ذلك هو بلورة وضع الفلسطينيين ومكانتهم على أنهم "شعب محتل"، وهي حقيقة تم التعتيم عليها عمدًا، مرة باسم قيام سلطة فلسطينية شكلية، ومرة بالتذرع بوجود حركات وتنظيمات ترفض وجود إسرائيل، ولا تسعى إلى تحقيق سلام عادل معها.

ولكن الأهم، وهو ما تحقق بالفعل، هو أن الخطوة الشجاعة التي أقدمت عليها جنوب أفريقيا ستجعل من الصعوبة بمكان على إسرائيل أن تمضي قدمًا في خطتها الآثمة لتهجير الفلسطينيين، سواء خارج قطاع غزة، كما هو مطروح الآن، أو في الضفة الغربية، كما تعتزم تل أبيب القيام به مستقبلًا.

نعم، هذه الخطة يفشلها بالأساس صمود أسطوري لأهل غزّة، وتمسّك الأغلبية الساحقة منهم بالبقاء في أرضهم، حتى لو كان العيش فيها غاية في الخطر، مع استمرار الحرب، أو غاية في الصعوبة بعد أن تضع الحرب أوزارها، جراء التدمير الممنهج للبنية التحتية للحياة هناك، ولكن اتهام إسرائيل بارتكاب "إبادة جماعية"، واضطرارها للدفاع عن نفسها ضد هذه التهمة البشعة، سيجعل يدها مغلولة في طرد الفلسطينيين من أرضهم.

إن صورة إسرائيل بعد الحادي عشر من يناير 2024 ستكون مختلفة جذريًا عما كانت عليه قبل ذلك التاريخ، ولم يكن لهذا التحول أن يتحقق، لولا الخطوة الجبارة التي أقدمت عليها جنوب أفريقيا، ثم عززتها بالحجة الدامغة، وعرضتها بلسان عربي مبين، لا يعكس فقط قدرة نخبها السياسية على إدارة الأزمة بحكمة، بل يعكس أيضًا إيمانها الراسخ بأن التصدي للقتل والظلم والتمييز، هو واجب أخلاقي وإنساني يقع على عاتق جميع الدول.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة